(( 4 ))
ترررررررررن
صوت جرس جيراننا يردد تررررررررن بفضل سبابتي الحانقه ! كانوا نياما على
ما أعتقد ! تأخروا كثيرا في فتح الباب فقمت أركل الباب بوحشيه ولسان حالي
يقول "إجاك الكبير يازغييييييييييير .."
انفتح الباب أخيرا ً .. من هذا .. نعم عرفته .. جارنا الجديد . هذا أبوهم الذي جلب الديكه لحارتنا !
لأول مره ألتقيه .. لم أعرفه ولم أتقاطع معه من قبل .!
كان يرتدي سروالا أبيض قصير بدون فانيله . كان أسمراً داكن السمره .. شعره الأسود المفلفل المنكش يشعرك أن هذا الرجل قد صحى للتو !
كان للحق طويلا ً .. كان يقف عند الباب ويفصلني عنه ثلاث درجات لكن شعرت
أنه أطول مني بكثير .. أما خشمه فكان كبيرا أيضا كان منخراه الواسعين
ينظران للحياه بتفاؤل ويرسلان لكل أحد مسجاً مفاده: لاتحارشني!
لم أسلم .. ولم أتردد .. انطلقت كالهادر غير عابيء بكل هذه الصفات التي
أمامي "وينه ؟ وين ديككم ملعون الصير " ينظر لي هذا الجار الاسمر دون جواب
!
أصرخ فيه قائلا : "وين حق الجار على الجار .. وش عرفكم في العادات والسلوم امحق جيره ..!" .. وينزل جارنا درجه .
أستمر في الزجر قائلا : "لا صرتوا في المريخ ولا حولكم احد جيبوا ديكه
ودجاج وفلوها .. هنا لا .. حارتنا لأ ! بالسويدي لأ.!" .. وينزل جارنا
درجتين!
انفخ صدري الصغير وأطلق زفره غاضبه : "والله العظيم وباله الرحيم ان سمعته
ثانيه بيصير علمن ثاني .. اذا ماربيتوا ديككم نربيه حنا !" .. وينزل جارنا
الدرجه الثالثه !!
اصبحنا الآن وجها لوجه ..نعم.. الآن عرفت وتيقنت أنه فعلا كان اطول مني
بكثير .. كان واقفا بيد واحده فقط .. يده الأخرى لم أراها ماذا هل هي
مبتوره ؟!آآه استطعت ان اراها كانت يده في الأعلى بعيداً .. بعيداً جدا..
استطيح لمحها رغم اشعة الشمس .. سوداء كبيره وكانت تنزل سريعا .. آها الآن
رأيتها جيدا فقد باتت اقرب .. ثم اقتربت واقتربت كثيرا وصارت تتجه لخدي
الأبيض !
لا أعرف بالتحديد ماذا حصل بعد الإرتطام .. لا اعرف ماذا حصل بعدها .. أقسم لو كنت اعرف لقلت لكم ..
كل ما اعرفه اني كنت أحث الخطى لبيتنا عائدا .. أواجه امي ثم شغالتنا ثم اخي بسرعه .. دخلت غرفتي واغلقت الباب في ذهول .
هل تعرفون صوت المايكرفون إذا رفع الإمام صوته ثم نشّز ؟ هل تعرفون ذاك الطنين الصارخ ؟
بالتحديد بالتحديييييييييييد كان هذا الطنين يرن في أذني !
نعم ! لا شيء غير الطنين
ومن يومها بدأت حكايات جديده .
(( 5 ))
أخرج كل مساء .. أمتطي سيارتي الفارهه .. الفراري .. كنت أحب الفراري منذ الصغر والحمدلله أني بت أمتلكها .
أخرج من بيتنا الواقع في السويدي وأتجول في هذا الحي الجميل .. الاشجار في كل مكان والناس ضاحكون باسمون والكل يحي الآخر .
السيارات تنطلق في شكل مثالي .. الكل ملتزم . لا تجد سياره تصدم اخرى او
قطعاً للإشاره ولا ترى سرعه متهوره او وقوف خاطيء او تسكير المسار الأيمن
عند الإشاره ..
الكل هنا ملتزمون بالنظام .. واذا أخطأت في السير وكدت تصطدم خطأ بسياره
اخرى .. يبادرك سائقها باالابتسام والاعتذار هو قبلك ..يالله ويالبهجتي:
الكل من حولي سعداء .
الثلج يغمر شارع الأبراج وأنا منطلق للدائري الجنوبي .. أشجار الصنوبر
اكتست بالثلج في شوارعنا الفسيحه .. أركن سيارتي كل يوم في سوق جيان
العالمي وأبدأ النزهه في هذه الطبيعه الخلابه . عندما لا أجد موقفاً أركن
سيارتي جانباً لكن يباردني أحد الذين في الموقف ويخرج بسيارته ويقول تفضل
.. اشكره واحييه . الكل معطاء والكل محب في أرجائنا الجميله .
أتجه مشيا عبر الدائري إلى وادي نمار .. آآآه ما أجمل هذا البحر "بحر نمار" .. انظر للمراكب وانا على شاطيء نمار واتأملها .
طيور النورس تحلق عاليا فوق الدائري ناثرةً البهجه .. وهذا العم غسان ..
نعم هذا النوخذه العم غسان يأخذ شراعه منطلقا للصيد .. يسالني عن صحتي
فأقول بخير وانت كيف حالك وحال فيروز ابنتك ؟!
آخذ مكاناً قصياً وابدأ بناء رجل الثلج .. واذا انتهيت رجعت لبيتنا .. هذه
نزهتي كل يوم .. باتت الحياه جميله فجأه .. وتمنيت لو كانت كل الاراضي
العربيه مثل أرضنا والشعوب مثل شعبنا !
هذا يومي وهذا هو روتيني بشكل متكرر على مدار شهور .. أركن سيارتي في جيان واخذ نزهه على الدائري ثم بحر نمار وألعب في الثلج واعود.!
في أحد الأيام وأنا مستغرق في بناء رجل الثلج وأضع الجزر في وجهه وأضحك من
شكله .. بادرني رجل لا أعرفه بالسلام .. سلمت عليه وشكرته ورجعت للبناء ..
سألني هل أذكره .. فأجبته "لا أذكرك واعتذر لك ان كان هذا يزعجك" .. أخذ
يلح علي ويتحدث عن مرحلة المتوسط وانه صديقي .. حاولت أن أسعده بتذكره
لكني حقاً لم أستطع ..
قال "ماذا تبني" .. قلت "ألا ترى هذا رجلي الثلجي" .. ضحك وقال ان هذا
تراب عادي وحصى .. أخذت أضحك من جهله واعطيته اشكلا وعدت لبنائي ..
بات يزعجني ويقول ان تصرفاتي غريبه .. وعندما ألح علي أن ارافقه بسيارته
قلت حسنا .. نهضت وصحت بأعلى صوتي للعم غسان : "وداعا عمي غسان واتمنى لك
صيدا وفيرا هذا اليوم وسلم على فيروز"
أخذ صديقي ينظر لي ولسان حاله يقول " وش هالسبهه "
(( 6 ))
أقف الآن أمام واجهة احدى العيادات المتخصصه .. بجانبي أخي الكبير والرجل الذي يدعي انه صديقي ! كانوا يتحمدون لي بالسلامه ..
عرفت منهم فيما بعد أنني مكثت في عيادة الدكتور رمزي عبدالحميد مدة شهر وعلاج مكثف .. لماذا لا أدري!
زحام في كل مكان .. والطرق ملتهبه وجافه .. الشمس حارقه .. الكل محتقن
وعلى وشك النزول للضرب ! الحوادث تعطل الشوارع والمراهقين يجتازون
الاشارات دون عابئين بها .
نقف ساعه امام الاشاره نريد التجاوز لليمين لكن هناك من عطل المسار الأيمن
دون مبالاه .. زحمه وبواري وحر وعالم آخر لم أعهده . سرقة صراف وسرقة جوال
من أحد الماره .. والبؤس يعم الوجوه ولا أدري ماذا اختلف !
سألتهم عن بحر نمار .. فذهبوا بي إلى وادي مقفر .. قالوا لي أنني كنت
أتخيله بحرا وهو لم يكن يوما كذلك .. سألتهم عن المراكب التي أشيعها بنظري
كل نهار .. فأوقفوني بجوار بعارين يقولون كنت أتخيلها مراكب مشرعه !
والعم غسان .. اين العم غسان هاتوا لي عمي غسان .. فأوقفوني امام بدوي
أجودي اسمه مناحي .. يقول هذا المناحي " كنت أسلك لك لأني كنت أشفق عليك
.. لم أكن نوخذه ولم أصطد أي سمك بس وش أسوي دايم تجي فوق راسي وتتمنى لي
الصيد الوفير واهز راسي واقول مايخالف .. " يضيف قائلا " ما أنكر انك كنت
سبهه بس كاسرن خاطري ياولدي "
سألته عن ابنته فيروز .. الحسناء فيروز ذات القوام الرشيق والقد المياس ..
فأوقفني بجوار شاب أكلح أملح يدعى فليحان .. كان فليحان هو من تخيلته
فيروز ابنة العم غسان " مناحي " ! تخيلوا ؟!
بعد ذاك القد والجمال اليوسفي والخدود الناعمه باتت شاباً أشعث أغبر وشفتاه لا تكادان تبينان يحجبهن شاربه الكثيف !
الشوارع مقفره .. والعطاله والبطاله ضربت أطنابها من حولنا .. والسرقه
باتت عاديه والأمن بات مهترءاً .. ذهب الثلج وذهب الصنوبر وذهب الرغد !
يقولون ولا أدري هل كانوا صادقين .. أنني كنت أركب الوانيت وتخيل لي أنها
فيراري .. وأبراج الاتصالات في شارع الابراج أتخيلها صنوبر .. وكلما ضربت
أشعة الشمس بقوة في المكان كلما تخيلت انهمار الثلج أكثر .
هاتفت الدكتور رمزي عبدالحميد ..قال "أشرحها لك ازاي ؟ بص يابني.. الكف
الشلوط اللي أكلته من جارك "أبو ديك" سوا لك صدمه نفسيه عصيبه حاده
وارتجاج بسيط .. الصدمه والارتجاج عمل لك حاله ذهنيه غير مستقره .. اممم
تقدر تقول انك كنت بتشوف اللي انت عاوزه بس هوا طبعا مش صحيح .. الحين
خفيت وبقيت كويس والحمدلله .. "
أغلقت الهاتف في وجه الدكتور !
(( 7 ))
أقف هذه المره أمام باب جارنا ..هذه المره لم يزعجني الديك !
هذه المره لست حانقا ولا عصبيا !
طرقت بابهم فخرج أبوهم !
بادرني ضاحكا : " مهوب انت المهايطي اللي كفخته قبل كم شهر "
قلت نعم انا هو ..
سألني وش تبي ؟ ..
فانطلقت أقبل يده كالشحاذ .. وأبكي بكل قرف من هذا العالم الذي حولي وأردد :
" أبي كــف ثاني الله يرحم والديك "